الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الحجة الثالثة: ما روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر: متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أنهي عنهما: متعة الحج، ومتعة النكاح، وهذا منه تنصيص على أن متعة النكاح كانت موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله: وأنا أنهي عنهما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما نسخه، وإنما عمر هو الذي نسخه.وإذا ثبت هذا فنقول: هذا الكلام يدل على أن حل المتعة كان ثابتا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه عليه السلام ما نسخه، وأنه ليس ناسخ الا نسخ عمر، وإذا ثبت هذا وجب أن لا يصير منسوخا لأن ما كان ثابتا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وما نسخه الرسول، يمتنع أن يصير منسوخا بنسخ عمر، وهذا هو الحجة التي احتج بها عمران بن الحصين حيث قال: ان الله أنزل في المتعة آية وما نسخها بآية أخرى، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة وما نهانا عنها، ثم قال رجل برأيه ما شاء، يريد أن عمر نهى عنها، فهذا جملة وجوه القائلين بجواز المتعة.والجواب عن الوجه الأول أن نقول: هذه الآية مشتملة على أن المراد منها نكاح المتعة وبيانه من ثلاثة أوجه: الأول: أنه تعالى ذكر المحرمات بالنكاح أولا في قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} ثم قال في آخر الآية: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} فكان المراد بهذا التحليل ما هو المراد هناك بهذا التحريم، لكن المراد هناك بالتحريم هو النكاح، فالمراد بالتحليل هاهنا أيضا يجب أن يكون هو النكاح.الثاني: أنه قال: {مُّحْصِنِينَ} والاحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح.والثالث: قوله: {غَيْرَ مسافحين} سمى الزنا سفاحا لأنه لا مقصود فيه إلا سفح الماء، ولا يطلب فيه الولد وسائر مصالح النكاح، والمتعة لا يراد منها إلا سفح الماء فكان سفاحا، هذا ما قاله أبو بكر الرازي.أما الذي ذكره في الوجه الأول: فكأنه تعالى ذكر أصناف من يحرم على الإنسان وطؤهن، ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} أي وأحل لكم وطء ما وراء هذه الأصناف، فأي فساد في هذا الكلام؟ وأما قوله ثانيًا: الإحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح فلم يذكر عليه دليلا، وأما قوله ثالثًا: الزنا إنما سمي سفاحا، لأنه لا يراد منه إلا سفح الماء، والمتعة ليست كذلك، فإن المقصود منها سفح الماء بطريق مشروع مأذون فيه من قبل الله، فإن قلتم: المتعة محرمة، فنقول: هذا أول البحث، فلم قلتم: إن الأمر كذلك، فظهر أن الكلام رخو، والذي يجب أن يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول: إنا لا ننكر أن المتعة كانت مباحة، إنما الذي نقوله: إنها صارت منسوخة، وعلى هذا التقدير فلو كانت هذه الآية دالة على أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحا في غرضنا، وهذا هو الجواب أيضا عن تمسكهم بقراءة أبي وابن عباس، فإن تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل إلا على أن المتعة كانت مشروعة، ونحن لا ننازع فيه، إنما الذي نقوله: إن النسخ طرأ عليه، وما ذكرتم من الدلائل لا يدفع قولنا، وقولهم: الناسخ إما أن يكون متواترًا أو آحادا.قلنا: لعل بعضهم سمعه ثم نسيه، ثم إن عمر رضي الله عنه لما ذكر ذلك في الجمع العظيم تذكروه وعرفوا صدقه فيه فسلموا الأمر له.قوله: إن عمر أضاف النهي عن المتعة إلى نفسه.قلنا: قد بينا أنه لو كان مراده أن المتعة كانت مباحة في شرع محمد صلى الله عليه وسلم وأنا أنهي عنه لزم تكفيره وتكفير كل من لم يحاربه وينازعه، ويفضي ذلك إلى تكفير أمير المؤمنين حيث لم يحاربه ولم يرد ذلك القول عليه، وكل ذلك باطل، فلم يبق إلا أن يقال: كان مراده أن المتعة كانت مباحة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنا أنهي عنها لما ثبت عندي أنه صلى الله عليه وسلم نسخها، وعلى هذا التقدير يصير هذا الكلام حجة لنا في مطلوبنا والله أعلم. اهـ.
.قال القرطبي: واختلف العلماء في معنى الآية؛ فقال الحسن ومجاهد وغيرهما: المعنى فما انتفعتم وتلذّذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن، فإذا جامعها مرّة واحدة فقد وجب المهر كاملًا إن كان مسمى، أو مهر مثلها إن لم يُسَمَّ.فإن كان النكاح فاسدًا فقد اختلفت الرواية عن مالك في النكاح الفاسد، هل تستحق به مهر المِثْل، أو المسمى إذا كان مهرًا صحيحًا؟ فقال مرّة: المهر المسمى، وهو ظاهر مذهبه؛ وذلك أن ما تراضوا عليه يقينٌ، ومهر المثل اجتهادٌ، فيجب أن يرجع إلى ماتيقنّاه؛ لأن الأموال لا تستحق بالشك.ووجه قوله: «مهر المثل» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيُّما امرأة نَكْحت بغير إذن ولِيِّها فنكاحها باطل فإن دُخل بها فلها مهر مثلها بما استُحِل من فرجها» قال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد: ولا يجوز أن تحمل الآية على جواز المُتْعَة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المُتْعة وحرّمه؛ ولأن الله تعالى قال: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين هوالنكاح الشرعي بوَلِيّ وشاهدين، ونكاحُ المتعة ليس كذلك.وقال الجمهور: المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام.وقرأ ابن عباس وأُبَيّ وابن جُبير: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ثم نهى عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم.وقال سعيد بن المسيِّب: نسختها آية الميراث؛ إذْ كانت المتعة لا ميراث فيها.وقالت عائشة والقاسم بن محمد: تحريمُها ونسخُها في القرآن؛ وذلك في قوله تعالى: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5- 6].وليست المتعة نكاحًا ولا مِلْكَ يَمين.وروى الدَّارَقُطْنِيّ عن عليّ بن أبي طالب قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة»، قال: وإنما كانت لمن لم يجد، فلما نزل النّكاح والطَّلاق والعِدّة والميراث بين الزوج والمرأة نُسخت.وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: نَسخ صوم رمضان كلَّ صوم، ونسخت الزكاةُ كلَّ صدقة، ونسخ الطلاقُ والعدّةُ والميراثُ المتعةَ، ونسخت الأُضْحِية كلَّ ذَبْح. وعن ابن مسعود قال: المتعة منسوخة نسخها الطلاق والعدّة والميراث.وروى عطاء عن ابن عباس قال: ما كانت المُتْعة إلاَّ رحمة من الله تعالى رحم بها عبادَه، ولولا نهْيُ عمر عنها ما زَنَى إلاَّ شَقِيّ.واختلف العلماء كم مرّة أُبيحت ونُسخت؛ ففي صحيح مُسْلم عن عبد الله قال: كنا نَغْزُو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا نساء؛ فقلنا: ألا نَسْتَخْصِي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رَخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أَجَل.قال أبو حاتم البُسْتِيّ في صحيحه: قولهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألاَ نَسْتَخْصِى؟» دليل على أن المُتْعة كانت محظورة قبل أن أُبيح لهم الاستمتاع، ولو لم تكن محظورة لم يكن لسؤالهم عن هذا معنًى، ثم رخّص لهم في الغزو أن ينكحوا المرأة بالثوب إلى أجل ثم نهى عنها عامَ خَيْبَر، ثم أذن فيها عامَ الفتح، ثم حرّمها بعد ثلاث، فهي محرّمة إلى يوم القيامة.وقال ابن العربيّ: وأما مُتعة النساء فهي من غرائب الشريعة؛ لأنها أُبيحت في صدر الإسلام ثم حُرّمت يومَ خيبر، ثم أُبيحت في غزوة أوْطاسٍ، ثم حُرّمت بعد ذلك واستقرّ الأمر على التحريم، وليس لها أُخْتٌ في الشريعة إلاَّ مسألة القِبْلة، لأن النّسخ طرأ عليها مرّتين ثم استقرّت بعد ذلك.وقال غيره ممن جمع طرق الأحاديث فيها: إنها تقتضي التحليل والتحريم سبع مرّات؛ فروى ابن أبي عمرة أنها كانت في صدر الإسلام.وروى سلمة بن الأكْوَع أنها كانت عامَ أوْطاس.ومن رواية عليّ: تحريمها يوم خَيْبَر.ومن رواية الربيع بن سَبْرة: إباحتها يوم الفتح.قلت: وهذه الطرق كلّها في صحيح مسلم؛ وفي غيره عن عليّ نهيه عنها في غزوة تَبُوك؛ رواه إسحاق بن راشد عن الزُّهْريّ عن عبد الله ابن محمد بن عليّ عن أبيه عن عليّ، ولم يتابع إسحاق بن راشد على هذه الرواية عن ابن شهاب؛ قاله أبو عمر رحمه الله.وفي مصَنّف أبي داود من حديث الرّبيع بن سَبْرة: النّهي عنها في حجة الوَداع، وذهب أبو داود إلى أن هذا أصحّ ما رُوي في ذلك.وقال عمرو عن الحسن: ما حلّت المتعة قطُّ إلاَّ ثلاثًا في عُمرة القضاء ما حلّت قبلها ولا بعدها.ورُوي هذا عن سَبْرة أيضًا؛ فهذه سبعة مواطن أحلّت فيها المتعة وحُرّمت.قال أبو جعفر الطحاويّ: كل هؤلاء الذين روَوْا عن النبي صلى الله عليه وسلم إطلاقَها أخبروا أنها كانت في سفر، وأن النّهي لحقها في ذلك السفر بعد ذلك، فمنع منها، وليس أحد منهم يخبر أنها كانت في حَضَر؛ وكذلك رُوي عن ابن مسعود.فأما حديث سَبْرة الذي فيه إباحةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم لها في حجّة الوَدَاع فخارج عن معانيها كلِّها؛ وقد اعتبرنا هذا الحرف فلم نجده إلاَّ في رواية عبد العزيز ابن عمر بن عبد العزيز خاصّةً، وقد رواه إسماعيل بن عَيّاش عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فذكر أن ذلك كان في فتح مكة وأنهم شكَوْا إليه العُزْبة فرخّص لهم فيها، ومُحال أن يشكُوا إليه العُزْبة في حجة الوَداع؛ لأنهم كانوا حجوا بالنساء، وكان تزويج النساء بمكّة يمكنهم، ولم يكونوا حينئذ كما كانوا في الغزوات المتقدّمة.ويحتمل أنه لما كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم تكريرَ مثل هذا في مغازيه وفي المواضع الجامعة، ذكر تحريمها في حجّة الوَداع؛ لاجتماع الناس حتى يسمعه من لم يكن سمعه، فأكّد ذلك حتى لا تبقى شُبهة لأحد يدّعي تحليلها؛ ولأن أهل مكة كانوا يستعملونها كثيرًا.روى الليث بن سعد عن بُكير بن الأشَجّ عن عمّار مولى الشَّرِيد قال: سألت ابن عباس عن المُتْعَة أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا سِفاح ولا نكاح.قلت: فما هي؟ قال: المتعة كما قال الله تعالى.قلت: هل عليها عِدّة؟ قال: نعم حيضة.قلت: يتوارثان، قال: لا.قال أبو عمر: لم يختلف العلماء من السَّلَف والخَلَف أن المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه، والفُرْقَة تقع عند انقضاء الأجل من غير طلاق.وقال ابن عطية: وكانت المتعة أن يتزوّج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الوَلِيّ إلى أجل مُسَمًّى؛ وعلى أن لا ميراث بينهما، ويعطيها ما اتفقا عليه؛ فإذا انقضت المدّة فليس له عليها سبيل ويستبرئ رَحِمها؛ لأن الولد لاحِق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلّت لغيره. وفي كتاب النحاس: في هذا خطأ وأن الولد لا يلحق في نكاح المتعة.قلت: هذا هو المفهوم من عبارة النحاس؛ فإنه قال: وإنما المتعة أن يقول لها: أتزوّجك يومًا أو ما أشبه ذلك على أنه لا عِدّة عليكِ ولا ميراث بيننا ولا طلاق ولا شاهد يشهد على ذلك؛ وهذا هو الزنى بعينه ولم يبح قط في الإسلام؛ ولذلك قال عمر: لا أُوتى برجل تزوّج مُتعة إلاَّ غيّبته تحت الحجارة.وقد اختلف علماؤنا إذا دخل في نكاح المُتْعة هل يُحَدّ ولا يلحق به الولد، أو يُدفع الحدّ للشبهة ويلحق به الولد على قولين؛ ولكن يُعذر ويعاقَب.وإذا لحق اليوم الولدُ في نكاح المتعة في قول بعض العلماء مع القول بتحريمه، فكيف لا يلحق في ذلك الوقت الذي أُبيح، فدلّ على أن نكاح المتعة كان على حكم النكاح الصحيح، ويفارقه في الأجل والميراث.وحكى المَهْدَوِي عن ابن عباس أن نكاح المتعة كان بلا وليّ ولا شهود.وفيما حكاه ضعف؛ لما ذكرنا.قال ابن العربيّ: وقد كان ابن عباس يقول بجوازها، ثم ثبت رجوعه عنها، فانعقد الإجماع على تحريمها؛ فإذا فعلها أحد رُجم في مشهور المذهب.وفي رواية أخرى عن مالك: لا يرجم؛ لأن نكاح المتعة ليس بحرام، ولكن لأصل آخر لعلمائنا غريبٍ انفردوا به دون سائر العلماء؛ وهو أن ما حُرّم بالسُّنَّة هل هو مثلُ ما حُرِّم بالقرآن أم لا؟ فمن رواية بعض المدنيّين عن مالك أنهما ليسا بسواء، وهذا ضعيف.وقال أبو بكر الطّرْطوسِيّ: ولم يُرخِّص في نكاح المتعة إلاَّ عِمْران بن حُصين وابن عباس وبعض الصحابة وطائفة من أهل البيت.وفي قول ابن عباس يقول الشاعر:وسائر العلماء والفقهاء من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة، وأن المتعة حرام.وقال أبو عمر: أصحابُ ابن عباس من أهل مكة واليمن كلُّهم يرون المتعة حلالًا على مذهب ابن عباس وحَرّمها سائر الناس.وقال مَعْمر قال الزُّهَرِيّ؛ ازداد الناس لها مقْتًا حتى قال الشاعر: كما تقدّم. اهـ. بتصرف يسير.
|